مجدي نجيب و معتقل الواحات
حين انقطع الشاب مجدي نجيب عن الدراسة بكلية الفنون الجميلة بسبب الاعتقال ، شاءت الظروف أن يتاح له الالتحاق بأكاديمية عليا للثقافة الرفيعة داخل معتقل الواحات ، حيث التقى وتتلمذ علي أيدي أعلام الثقافة المصرية في ذلك الوقت الذي جمعهم النظام الناصري وسط ذلك المعتقل النائي في قلب الصحراء
كالدكتور لويس عوض و د. عبد العظيم أنيس، وفيليب جلاب رئيس تحرير (الأهالي) فيما بعد، وغالي شكري ، وأديب ديمتري، و الوزيران السابقان في حكومة السادات ، د. فؤاد مرسي ود إسماعيل صبري عبدالله ، والناقد المعروف إبراهيم فتحي و أخيه د صلاح قنصوه والمسرحي الشهير الفريد فرج و الأديب عبد الرحمن الشرقاوي والروائي النوبي محمد خليل قاسم صاحب الرواية النوبية الفريدة ( الشمندورة) و التي كتبها بسن قلم كوبيا حين فشل في العثور علي قلم للكتابة والأديب صنع الله إبراهيم الذي كتب داخل المعتقل عدة تجارب روائية لم تكتمل ويعض القصص القصيرة علي أوراق لف السجائر - البافرة !! ، و المناضل البارز شهدي عطية أستاذ الأدب الإنجليزي الذي رفض عمليات الإذلال فصرعه رجال الأمن ضربا والفنان الراحل حسن فؤاد رئيس تحرير صباح الخير والمعماري فوزي حبشي ، والشاعر والمخرج عبد الرحمن الخميسي والناقد المسرحي الكبير فاروق عبد القادر و الرسام وليم إسحاق الذي عرف بعدها بـ وليم الملك كما كان زملائه ينادونه في المعتقل ، ومحمد سيداحمد وفريد الشوباشي و أديب مصر الأعظم يوسف إدريس والشاعر فؤاد حداد الذي كتب أثناء اعتقالة قصائد "المسحراتي و و الروائي صلاح حافظ صاحب رواية "المتمردون" التي كتبت داخل المعتقل و تحولت فيما بعد إلى فيلم أخرجه توفيق صالح و يعتبر من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية و الصحفي حسين عبد ربه و زكي مراد و نبيل الهلالي والناقد والأديب الصديق الراحل إبراهيم منصور ، وغيرهم
لم تقتصر الدائرة على الحوار الثقافي و المحاضرات داخل الزنازين و في باحة المعتقل طويلا ،
فبعد استشهاد شهدي عطية الشافعي على أبواب سجن أبي زعبل في 12 يونيو 1960، انتشر الخبر، وعلم به الرئيس جمال عبد الناصر عندما كان يحضر جلسة مجلس النواب اليوغسلافي مع الرئيس تيتو. فقد فوجئ بأعضاء المجلس يقفون دقيقة صمت حداداً على روح شهدي عطية. فأمر بإجراء تحقيق في الجريمة، ووقف التعذيب في السجون. وصدرت تعليمات بتحسين معاملة المعتقلين، والسماح بتلقي رسائل الأهل. وتحول المعتقل إلى مجرد منفى، وتراخت قبضة المباحث، واقع هامش الحريات النسبية في المعتقل، وظهرت تجربة الواحات الثقافية، وأصبح (بؤرة للثقافة والتعليم والمعمار والفن والخضرة، كانت برهاناً على قدرة الإنسان على التقدم ليغرس زهرة في قلب الجحيم!).
عرض فوزي حبشي فكرة بناء مسرح في باحة السجن الواسعة، فوجدت منهم حماسة غريبة، كأنهم متلهفون للمشاركة في عملية بناء تعيد إليهم شعورهم بأن لوجودهم معنى. وعرضت الفكرة ورسوم التخطيط الأوّلي على إدارة السجن، فوافقت.
يقول فوزي حبشي: يحتاج المسرح إلى بناء حيطان ساندة بين كل مصطبة وأخرى. وبحسبة أولية وجدت أننا نحتاج إلى مئات الآلاف من الطوب، والحل الوحيد هو تصنيع الطوب، أي ضربه من المواد المتوفرة في الأرض تحت طبقة الرمال الصفراء). وأقيمت (المعجنة) والمفرش والقوالب الخشبية. وأجج التنافس (مجلة الحائط) التي بادر إليها الفنان حسن فؤاد، وأسماها (مجلة المسرح)، وساعده فيها عدلي برسوم وفكري رفاعي. وأطلقت المجلة شعاراً جميلاً: (فلننته من بناء المسرح قبل 27 آذار 1963 ، يوم المسرح العالمي).
كان المعتقلون يضربون آلاف قطع الطوب يومياً. واستيقظوا ذات صباح ليجدوا أن المفرش الذي قاموا برصّ عشرات الآلاف من الطوب عليه خال من أية طوبة. واتضح أن نجاحهم أغرى مأمور السجن، فأمر بعض عساكره بسرقة الطوب ليستكمل به بناء فيلته الخاصة. فاتجه فوزي حبشي إلى مكتب المأمور حانقاً، وعنّفه. يقول: (وتضاءل الرجل أمامي خجلاً، وأخذ يعتذر وقد أحسّ بدناءة سلوكه، وعرض عليّ أن يساعدنا بالسماح لنا باستخدام عربة السجن الحكومية لنقل الطوب من المفرش إلى موقع البناء بدلاً من نقله حملاً على الأكتاف كما كنا نفعل).
استغرق العمل نحو أربعة شهور، انتهى خلالها المعتقلون من بناء المسرح. ثم طلُوه بالجير. و(بدأت العروض التي كانت بهجة للمعتقلين والضباط وأسرهم، والجنود. ولم يكن يعتذر عن الحضور سوى الإخوان المسلمين. وقدمنا مسرحيات لشكسبير، منها مسرحية (ماكبث)، وأخرى لجان بول سارتر، و(حلاّق بغداد) لألفريد فرج، و(عيلة الدوغري) لنعمان عاشور، وغيرها). وحضر محافظ الواحات الخارجة مسرحية (عيلة الدوغري) من إخراج الفنان حسن فؤاد.
تجدر الإشارة إلى أن مذكرات فوزي حبشي تؤكد أن الشاعر مجدي نجيب كتب في الواحات قصيدته التي غنّتها فيما بعد المطربة شادية، ومطلعها (قولوا لعين الشمس ما تحماشي).
وفي الواحات أيضاً بدأت تصدر بانتظام مجلة ثقافية سياسية باسم (الثقافة الجديدة)، وكان يكتب فيها د. عبد العظيم أنيس، وفيليب جلاب وألفريد فرج، وأديب ديميتري، ود. فؤاد مرسي، وإبراهيم فتحي..وغيرهم
عن ( مذكرات سجين لكل العصور) للمعماري فوزي حبشي
ياميت صباح الفل علي الورداني
كان ينظر الى المتعاونين مع الاحتلال الانجليزي على انهم خونة يستحقون القتل
و حين كان الشاب إبراهيم ناصف الورداني الذي يرتقي سلم المشنقة تنفيذا لحكم الاعدام الصادر بشأنه اثر قيامه باغتيال رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت بطرس غالي باشا (1847-1910) - و الذي نقم عليه المصريون و اعتبروه عميلا للاحتلال بعد توقيعه اتفاقية السودان التي فصلت شمال وادي النيل عن جنوبه واودعت السودان خالصا في ايدي الانجليز ، وترؤسه محكمة دنشواي التي قامت بشنق الفلاحين ، وإعادته لقانون المطبوعات ومقاومته الجمعية العمومية ورضاه بمشروع قناة السويس – وهو بالمناسبة جد الدكتور بطرس غالي الامين العام السابق للامم المتحدة
حين كان إبراهيم الورداني يرتقي سلم المشنقة في بوم صيفي حار 28 يونيو 1910م ، انطلقت حناجر ودموع المصريين لوداعه باغنية تلقائية لا يعرف مؤلفها ، اصبحت من يومها ضمن تراثنا الفلكلوري!
جولوا لعين الشمس ماتحماشي
احسن غزال البر صابح ماشي
... ياميت صباح الفل علي الورداني..
وفي معتقل الواحات ، نسج شاعرنا اغنيته علي مطلعها
تلك الاغنيه التي لحنها بليغ حمدي وغنتها شادية
ورغم انها صيغت كاغنية عاطفيه الا انها ايضا تثير احساسا وطنيا مصريا خالصا
وهذا هو مجدي نجيب
م . سلطان